11‏/10‏/2011

اعتراف فكرة مجنونة

قالت:
- فلتسترخ .
فرد قائلا :
- لا تقدر أعصابي على ذلك!
- أيُّ مشاكل توترك ؟
- أستطيع أن أقول لا مشاكل.
- ما حجم التزاماتك اليومية ؟
- مؤخراً لا التزامات قد تحررت من كل التزام .
- طيب ..ما نوع من تخالطهم ؟
- قد قاطعت الناس كلهم صالحهم وطالحهم !
- اذا ما المرض العضال الذي يفتك بجسدك ؟
- إني بخير وعافية فلا أمراض ولله الحمد .
- إذا ما الفكرة المجنونة التي تسيطر على رأسك وتجعلك مشدود الأعصاب.
- نعم ...نعم...نعم...لقد ذكرتيها إنها الفكرة المجنونة نعم هي ..هي السبب هي..هي... فلنمسك بها قبل أن تهرب .
(انتهى الحوار)
سمعت الفكرة المجنونة القول الأخير فسحبت مسرعة حقيبة سفر سوداء لها وتوجهت لأعلى رأسه واعتلت جمجمته ثم فتحت لها فتحة في الجلد فخرجت و حاولت أن تُخرج معها حقيبتها لكنها شعرت برغبته الشديدة بالإمساك بها فخشيت على نفسها فتركت الحقيبة تنفرط من يدها وفرت هي بنفسها .
أما هو فلحق بها أول ما حطت بقدميها على الأرض رأها مخلوقة غاية في الصغر سوداء..سوداء..سوداء..عارية تماما لها رأس ويدان وقدمان كالإنسان وأوضح ما فيها عيناها الكبيرتان.
قالت له وقد أمسكها وكاد يعصرها بقبضته :
- يا مجنون ستقتلينني .
فضحك من قلبه ليس على قولها ولكن فرحا  بقبضه عليها .
ثم عادت تقول:
- إني أصغر من أن أُعامل بهذه الخشونة.
فقال هو بهدوء:
- ماذا كنت تفعلين بالأعلى؟
و ردَت هي:
- ماذا كنت أعمل؟! ..كنت أعيش... هناك مسكني!!
- أريد أن تخبريني عن طبيعة عملك هناك .
- إني أعمل في وظيفتي .
- وما وضيفتك؟
- إدارة الأعضاء.
- ومن أنت حتى تديريهم؟
- إني أحب الإدارة والمكان هناك شاغر.. مالمشكلة إذا تفضلت وأدرت المكان ؟!
- ما أهدافك في العمل؟ ما غايتك ؟ ما رؤيتك ؟ وعلى أي أساس تقوم إدارتك؟
- سأصدقك القول كل شيء عندي قائم على نية واحدة
- ماهي؟
- الحركة ..هدفي أن يعمل كل شيء طوال الوقت بلا راحة ولا كلل..
- أنت غير صادقة إني لا أعمل !! قد أوقفت أكثر نشاطاتي والتزاماتي وعلاقاتي حتى بدوت كالميت..
- هاهاها إنك مسكين جسدك كله يتحرك بل ويُنهك من النشاط والحركة.
- صدقتي فعلا طوال الوقت اشعر بالإجهاد والتعب .
- عيناك لم أُرحهما أبدا .
- عيناي؟!
- نعم
- أنت لا تعمل لكن عيناك تدور مع قطيع الأفكار التي تدور في رأسك ..عيناك تلاحق طوال الوقت صور المثالية والكمال فهما لم تعرفا الراحة قط وكان جسدك يساندهما بأعصابه وخلاياه .
- كل هذا لا يهم ....إني أراك الآن توجهين الاتهام للعينين رغم أنك اعترفت من قليل أنك المحرك للجسد
- بصراحة أنا أتحكم في العينين وهي تقود الآخرين
- وكيف تتحكمين بها ؟
- الأمر في غاية السهولة صنعت غرفة مظلمة تشبه قاعة عرض السينما تحوي شاشات عرض كثيرة ودوري أنا هو توجيه العينين للشاشة التي أرغب في أن تراها
- و ماذا في كل شاشة ؟
- فيها صور طبعاً .
- صور لأي شيء ؟
- إني اختار صور حسب مزاجك في ذلك الوقت إن انتابك الحزن فاختارلها صور مؤلمة وإن انتابك الغضب فصور القتال وان جاءك شعور بالذنب وجهتها لشاشة مليئة بصور التعذيب وان حل بك اليأس فصور الإجهاد والضعف .
- اسمعي أيتها الفكرة أنت تحاولين تعظيم قدرتك لكنك لم تفلحي إن كان القول كما ذكرتي فهذا يعني أنك لا تتحكمي بشيء بل المشاعر هي المُسَيِرة .
- صحيح هذا ما يحدث فعلا لكني بذكائي واجتهادي ومثابرتي أستطيع تعظيم تلك المشاعر بنوعية وكثافة الصور التي أعرضها .
- وما ذا تفعلين حين تنتابني مشاعر السرور والأمل؟
- هنا يحصل شيء غريب.. تنزل من أعلى سقف القاعة شاشات جديدة فيها صور جديدة لم أصممها ولا تعجبني حتى !! شاشات تملؤها الصور المشرقة وهنا يزيد عبء العمل علي فأشغِّل كل شاشات القاعة وأزيد من سرعة الصور وتنوعها لأُشتت انتباه العينين بل وأزيد في مكبرات الصوت وما هي إلا ثواني حتى تطغى قوتي وترتفع تلك الشاشات الدخيلة..
- كل هذا والعينان لا تدري بهذا المخطط !
- وما الذي سيدريها ؟
- أين العقل؟ أين هو كل ذلك الوقت لِمَ لَم يُنبها
- إنه نائم .
- نائم ؟!
- نعم هو غاضب من زمن بعيد وأعلن أنه لن يتدخل في أي شأن لأي أحد ..
- ومما هو غاضب ؟
- إنه يرى الفوضى كما يسميها لكنه لم يستطع فهم أسبابها لقد شعر أن الأمور خرجت عن سيطرته
لذلك قرر أن ينام . ولأني ذكية نبيهة أستغللت الفرصة وبدأت أدير الأمور.
- طيب وقبل مجيئك من الذي كان يسبب الفوضى؟
- أنا .
- كيف ؟
- كنت أضايق العقل وأحاول أن أزحزحه عن كرسيه ..كنت حين يغفل قليلا أعبث في المحرك فيجن جنونه..
- وكيف لم ينتبه لعبثك ؟
- هاها ..المسكين كان يُجهد أحيانا فيغفو فاستغل الفرصة .
- وهل العقل مطالب بألَّا يغفو أبداً حتى لا يتسلل أحدٌ لكرسي القيادة ؟!
- لا بل هو مطالب بأمر آخر لكنه يتجاهله.
- وما هو؟
- الاعتراف بقصوره وضعفه وتقبله بأن يعاونه آخرون في الإدارة.
- لن يسمى عقل لو قبل بالتعاون مع فكرة سوداء مثلك.
قالت الفكرة بكل هدوء:
- لم يكن مطالب بالتعاون معي أنا بل مع أحد آخر غيري لكنه العقل لا يتقبله .
- من تقصدين؟
- أقصد القلب ذلك المخلوق الهاديء العطوف إني أشعر أحيانا في بعض تصرفاتي العدوانية أنها انتقاما مني لذلك القلب .
- وما شأنك أنت؟
- إني أكره التعالي والتكبر..كان العقل متعاليا لأبعد حد لم يُرد التعاون مع القلب في الإدارة قط .
كان يزعم بأنه أعلم وأذكى أقوى وينعت القلب بالبدائية والجهل والضعف كان يحتقره لدرجة أنه حتى لم يسمح له يوماً بدخول غرفة التحكم .
- وأنتِ كيف دخلتي غرفة التحكم ؟
- قلت لك كنت أنتظر إرهاق العقل وغفواته فأنسل وأعبث بما قدر لي أن أعبث به ثم أهرب.
- ولِمَ لَم يفعل القلب مثلك فينسل ويصلح من الأمور لحظات غفوة العقل.
- لا.. لا ..
- ولِمَ ؟
- ذلك يحتاج للتلصص والمخادعة و المقاتلة والقلب لا يفعل ذلك .
- كان عليه أن يفعل لمصلحة الجسد كله لو فعل ذلك لكان فدائياً .
- أنت لا تعرف القلب .. القلب لا تهمه الألقاب والمسميات .
- لكن كان يجب أن يضحي من أجل الجسد كله وليس من أجل الألقاب.
- القلب يعرف ما يجب عليه و لا تضلله العواطف الجياشة .
- هاها.. ليتك تسكتين إنه القلب أبو العواطف فكيف لا تطغى عليه العواطف.
- اسمع إنه مركز العواطف لكن دوره هو الشعور أما طغيان العواطف فهذه أفاعيل لا تحدث إلا بمباركة العقل أو غفلته ..ولن تجد أكثر حكمة في الجسد من القلب..
- لكن الحكمة منذ عرفنا أنفسنا تنسب للعقل !!
- نعم ذلك حين يُنفذ العقل أوامر القلب.
- أنت فكرة سوداء تريدين التلاعب بي .
- حين كنت داخل جسدك كنت أفعل ذلك أمَّا الآن فأنا في قبضتك .
- وكيف أصدقك ؟
- يمكنك تفقد الأحوال الآن داخل جسدك بعد خروجي لترى ما يحدث الآن ولتعرف أيهما أحكم العقل أم القلب.
بعد هذا الحديث الطويل نظر صاحب الجسد من بعيد إلى داخل جسده فلمح العقل يقوم من على سريره مبعداً لحاف سماوي جديد كان يغطيه فينظر للِّحاف ثم ينظر إلى صاحب الجسد ويقول وقد قام من نومة طويلة لا يدري متى بدأت وكيف انتهت:
- لِمَ أنا هنا ؟ وما هذا الكلام الذي سمعته ؟
ثم يقول معتذرا :
- صدقني كنت كالتائه ..كنت مجهدا و نومتي الطويلة هذه لم تكن باختياري!
هزَّ رأسه ألا بأس عليك.
ثم نظر للقلب جالس في مكانه بخشوع لا يتكلم بشيءٍ لكن آية قرآنية مرتلة تملأ المكان الذي هو فيه
(وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا)